12 أكتوبر، 2011

الإثنين 10 أكتوبر (236)

التدخل الأجنبي وبناء ليبيا

نشرت صحيفة الجارديان في عددها بتاريخ 8 أكتوبر مقالاً بقلم روري ستيوارت، أكاديمي وعضو محافظ في مجلس العموم البريطاني ومؤلف كتاب "بناء الأمم: هل بإمكان التدخل أن ينجح؟" ــــ بالاشتراك مع جيرالد ناوس. وجدتُ من المفيد نشر ترجمة ملخصة للمقال، فهو يناقش احتمالات مستقبل عملية البناء في ليبيا في ضوء تجارب دولية سابقة في كل من العراق والبوسنة وأفغانستان، ونظريتين سائدتين في الغرب بشأن ما يُسمّى بــ "بناء الأمم" Nation Building. والغرب عنصر فاعل في عملية البناء الليبية أيضاً، وإن كان البعض منا يفضل النظر إليها على أنها عملية ليبية صرفة... وهي ليست كذلك. أنشر الجزء الأول لملخّصٍ مترجم بتصرّف في يومية هذا اليوم، على أن أستكمله في جزءٍ ثانٍ في يومية الغد إن شاء الله:

(لقد قضيت معظم حياتي العملية في دراسة التدخل [العسكري] والعمل فيه. بدأت مسيرتي كدبلوماسي في تيمور الشرقية، واشتغلت في البلقان والعراق وقضيت بضع سنوات في أفغانستان، ولكن لا شيء من ذلك مكّنني من الشعور، عند دخولي طرابلس في شهر أغسطس، أن باستطاعتي التنبؤ بمستقبل ليبيا. كانت هناك أصداء من بغداد في الرجال الملثمين الممسكين بمضادات الطائرات فوق السيارات وفي الجمهور الغاضب خارج أحد المصارف. هل هذه مقدمةٌ لموجة نهب مفاجئة، ومن ثَمّ إلى سخط وشغب وقنابل على جانب الطريق وصواريخ على المواقع الأجنبية؟ هل ستُبتلع ليبيا، كما كان الحال في التدخل في العراق وأفغانستان، في دوامة من آلاف الضحايا والألم والفساد وغياب الأمن؟

أم هل ستكون ليبيا قصة نجاح مثلما كان الحال في البلقان؟ لقد قُتل في البلقان 100 ألف شخص، وكانت هناك ثلاثة جيوش عرقية و419 ألف رجل مسلح. وتدخَّل الغرب. والآن يوجد جيش واحد وأقل من 15 ألف جندي. عاد مليون لاجئ إلى مواطنهم وأكثر من 200 ألف منزل أعيدت إلى أصحابها. أُلقي القبض على كارادتش وميلوسوفتش وميلادتش وحوكموا كمجرمي حرب. وبالإمكان التحرك عبر البوسنة من دون أن تمرّ على نقطة تفتيش أمنية واحدة. لقد انتهت الحرب تماما، وتمّ هذا الإنجاز من دون فقدان جندي واحد أمريكي أو من دول الناتو. هل هناك دروس في هذه الحالات الثلاثة من التدخل ترشدنا إلى النجاح في ليبيا؟

نظريتان رئيسيتان كانتا موضوع دراسة من قبل المسؤولين عن "استراتيجية ما بعد الصراع" في ليبيا. النظرية الأولى كانت تلك التي تبنّتها إحدى أهمّ مؤسسات الدراسات في العالم، مؤسسة راند، تركّز على الموارد والتخطيط. في نظر راند نجحت عملية البلقان بسبب توفر قوات كافية والمال والإدارة الجيدة، وفشلت عملية العراق بسبب عدم وجود خطة لما بعد الحرب، وفشلت عملية أفغانستان بسبب عدم توفر الموارد.

أما النظرية الثانية، والتي ويبرز من بين دعاتها بادي آشداون الممثل الأممي السابق في البوسنة، فهي تدعو إلى ’التدخل بقوة‘ وصولاً إلى سيادة القانون بأقصى سرعة، عن طريق قيادة دولية جريئة وذات قبول، وينبغي بعد ذلك "تحاشي تحديد نهاية زمنية لها... يجب القبول بأن المهمة ستكون طويلة، فحفظ السلام يقاس بالعقود لا بالشهور". في هذا السياق، كتب آشداون إلى رمسفلد سنة 2003 مقترحا تأجيل الانتخابات في العراق إلى حين بسط سيادة القانون، وحذّر سنة 2008 أن أفغانستان بحاجة إلى "شخص واحد يقود العملية الدولية تكون له السلطة المناسبة لقيادة الأطراف الدولية المختلفة".

كلا النظريتين تركزان على "الأجنبي". كلا النظريتين لا تبديان تفاؤلاً حيال القدرات المحلية ـــــ يتم تصوير الشعوب والقادة بشكل سلبي، كمجرمين أو ضحايا ـــــ ولكن النظريتين متفائلتان حيال ’المجتمع الدولي‘ المفترض فيه النجاح في أي مكان من العالم، شريطة توفّر الاستراتيجية المناسبة والموارد والثقة. عنوان إحدى منشورات مؤسسة راند يشي بهذه النظرة: "كتيب إرشادي للمبتدئين في بناء الأمم"!

العيب الأساسي في هاتين النظريتين يكمن في أنهما لا تعكسان أدنى قدر من المعرفة أو القدرة على الفعل أو شرعية العمل في بلدان الآخرين. أعرف من خبرتي أن الأجانب معزولون ومحدودو الإمكانيات بدرجة أكبر مما يعترفون به. [من واقع تجربتي في أفغانستان] أستطيع القول أن الأجنبي كان حتماً معزولا عن الحياة الأفغانية: بسبب قصر مدة الإقامة، والقيود الأمنية، ومتطلبات العمل، والتعليم، ولمجرد كونه أجنبياً. حتى أكثر الأجانب مثابرة سيكون على اتصال أضعف بحقيقة الحياة اليومية من أصغر واضعي السياسات العاملين من منازلهم على القضايا الداخلية لبلدهم. أعرف ذلك لأنني كنت واحداً من أولئك الأجانب.

الموظفون المدنيون الأجانب كان لديهم قدر قليل من المعرفة بالعراق أو أفغانستان من جوانبها الإنسانية والجغرافيا والتاريخ والأدب والدين. ولم يكن أولئك الموظفون خبراء في قضايا المرأة أو نظام الحكم في العراق أو أفغانستان: كانوا خبراء في قضايا المرأة ونظم الحكم. هذا لا يعني أن الأجانب لا يستطيعون فعل أي شيء. حتى في أفغانستان كانت هناك أمثلة لتحسينات كبرى في المالية والصحة والأشغال العامة والتعليم والاتصالات خلال سنتين من التدخل سنة 2001. عملية إنشاء مصرف مركزي أوتحقيق استقرار للعملة هي نفس العملية في أي مكان في العالم، ولا تعتمد على التركيبة المجتمعية في قرية من قرى أفغانستان. لقد حسّن الأطباء ألأجانب المدرَّبون الرعاية الطبية، والمهندسون الأجانب ساهموا في تصميم الجسور وإنشاء محطات الكهرباء وصيانة المعالم الأثرية. ومع ذلك يبقى لدى الخبراء الأفغان في هذه المجالات ميزاتهم.

ولكن عزلة حياة الأجانب وأفكارهم المجردة (النظرية) أدت إلى ضعف أداء الأجانب كلما اقتربوا من البنية الحقيقية للحياة الريفية في أفغانستان. لقد حققوا نجاحات في تحقيق استقرار العملة، ولكنهم فشلوا فشلا كبيرا في إقامة حكم رشيد أو سيادة القانون أو تحويل المزارعين عن زراعة الخشخاش أو غير ذلك من عناصر "بناء الأمة".

لقد أنفق المجتمع الدولي مئات الملايين من الدولارات، على سبيل المثال، في محاولة لبسط سيادة القانون في أفغانستان. قدّر صديق أمريكي عمل مستشاراً في مجال سيادة القانون أن تكلفته مع زميله الوحيد ومصاريف فريق إقامتهما وأمنهما بلغت 1.5 مليون دولار في السنة. لقد أنفق الغرب مئات الملايين من الدولارات لكي يحاضر أمام المحامين الأفغان، ويوفد قضاة أفغان ليلتقوا بقضاة وسط الغرب الأمريكي، ويقيم الندوات، ويعيد نشر القوانين، ويعدّ لوائح إدارية جديدة، ويبني سجونا، ويدرب الشرطة. وفي النهاية كانت العدالة التى نفذها شباب الطالبان، المستظلين بالأشجار، أكثر إنصافا وكفاءة من المؤسسات التي كرّس المجتمع الدولي وقتا طويلا وأموالا طائلة لها. يقول كثير من الأفغان وبأعداد متزايدة: "على الأقل، كان هناك أمن وعدل تحت الطالبان". وتوجد أمثلة أخرى لفشل الغرب في إقامة "حكم رشيد" أو نزع السلاح وحل المجموعات المسلحة.

وفي النهاية لم تكن البرامج الدولية الأكثر طموحاً والتي سعت إلى تغيير الدولة جذرياً برامج فاشلةً وحسب؛ فقد أحدثت أضراراً. لقد ضخّم المجتمع الدولي المخاوف من الإرهاب الأفغاني وزعزعة الاستقرار الإقليمي إلى درجة أن الفشل لم يكن خيارا مطروحا. وأدّى الشعور بالذنب تجاه الأرواح التي أُزهقت، والوعود التي قطعتها المجموعة الدولية على نفسها، إلى جرِّ الغرب إلى ما هو أبعد غوْراً في الدين الجديد: "بناء الأمم".)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق